فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأن سائلاً يقول‏:‏ فماذا قال أبوهم لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏

‏{‏إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ‏}‏ لشدة مفارقته عليّ وقلة صبري عنه، واللام الداخلة على خبر إن إذا كان مضارعاً قيل‏:‏ تقصره على الحال وهو ظاهر كلام سيبويه، وقيل‏:‏ تكون له ولغيره، واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 124‏]‏، وقيل‏:‏ إنها للحال إن خلت عن قرينة ومعها تكون لغيره، وجعلوا من ذلك ما في الآية، وبعضهم جعلها هنا للحال، واستشكل بأن الذهاب مستقبل فيلزم تقدم الفعل على فاعله وهو غير جائز لأنه أثره ولا يعقل تقدم الأثر على المؤثر‏.‏

وأجيب بأن التقدير قصد‏.‏ أو توقع أن تذهبوا به، فالكلام على تقدير المضاف وهو الفاعل وليس ذاك أمراً مستقبلاً بل حال، ولا يمتنع في مثل ذلك حذف الفاعل لما صرحوا به أنه إنما يمتنع إذا لم يسدّ مسدّه شيء وهنا قد سدّ، ولا يجب أن يكون السادّ هو المضاف إليه كما ظن بل لو سدّ غيره كان الحذف جائزاً أيضاً، ومن هنا كان تقدير قصدكم أن تذهبوا صحيحاً، ويحتمل أن يكون ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقال بعضهم‏:‏ إنه يمكن دفع الاشكال من غير حاجة إلى تقدير المضاف بأن يقال‏:‏ إن الذهاب يحزنه باعتبار تصوره كما قيل نظيره في العلة الغائية، وقال شهاب‏:‏ ذلك التحقيق أظن أن ما قالوه في توجيه الاشكال مغلطة لا أصل لها فان لزوم كون الفاعل موجوداً عند وجود الفعل إنما هو في الفاعل الحقيقي لا النحوي واللغوي فإن الفعل قد يكون قبله سواء كان حالاً كما فيما نحن فيه‏.‏ أو ماضياً كما أنه يصح أن يكون الفاعل في مثله أمراً معدوماً كما في قوله‏:‏ ومن سره أن لا يرى ما يسوءه *** فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً

ولم يقل أحد في مثله إنه مجتاج إلى التأويل فان الحزن والغم كالسرور والفرح يكون بالشيء قبل وقوعه كما صرح به ابن هلال في فروقه، ولا حاجة إلى تأويل‏.‏ أو تقدير‏.‏ أو تنزيل للوجود الذهني منزلة الخارجي على القول به، أو الاكتفاء به فإن مثله لا يعرفه أهل العربية‏.‏ أو اللسان فإن أبيت إلا اللجاج فيه فليكم من التجوز في النسبة إلى ما يستقبل لكونه سبباً للحزن الآن اه‏.‏

وأنت تعلم أنهم صرحوا بأن فعل الفاعل الاصطلاحي إما قائم به أو واقع منه، وقيام الشيء بما لم يوجد بعد ووقوعه منه غير معقول، وحينئذ فالتأويل بما يصح القيام أو الوقوع في فاقد ذلك بحسب الظاهر واجب كذا قيل فتدبر، وقرأ ابن هرمز‏.‏

وابن محيصن ليحزني بالادغام، وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله عنهما، وقرأ أيضاً تذهبوا به من أذهب رباعياً، ويخرج كما قال أبو حيان على زيادة الباء في ‏{‏بِهِ‏}‏ كما خرج بعضهم ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ في قراءة من ضم التاء وكسر الباء الموحدة على ذلك أي ليحزني أن تذهبوه‏.‏

‏{‏وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب‏}‏ هو يحوان معروف وخصه بالذكر لأن الأرض على ما قيل‏:‏ كانت مذئبة، وقيل‏:‏ لأنه سبع ضعيف حقير فنبه عليه السلام بخوفه عليه السلام عليه منه على خوفه عليه مما هو أعظم منه افتراساً من باب أولى، ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن ما بلغ في قوله‏:‏

والذئب‏)‏‏}‏ أخشاه إن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وقيل‏:‏ لأنه عليه السلام رأى في المنام أن ذئباً قد شد عليه فكان يحذره، ولعل هذا الحذر لأن الأنبياء عليهم السلام لمناسبتهم التامة بعالم الملكوت تكون واقعاتهم بعينها واقعة، وإلا فالذئب في النوم يؤول بالعدو‏.‏

وادعى بعضهم أنه عليه السلام ورى بالذئب عن واحد منهم فانه عليه السلام أجل قدراً من أن لا يعلم أن رأياه تلك من أي أقسام الرؤيا هي، فإن منها ما يحتاج للتعبير‏.‏ ومنها ما لا يحتاج إليه، والكامل يعرف ذلك‏.‏

وتعقب بأنه يحتمل أن يكون الأمر قد خفي عليه كما قد خفي مثل ذلك على جده إبراهيم عليه السلام وهو بناء على ما ذكره شيخنا ابن العربي قدس سره من أن رؤياه عليه السلام ذبح ولده من الرؤيا المعبرة بذبح كبش لكنه خفي عليه ذلك ولا يخفى ما فيه، والمذكور في بعض الروايات أنه عليه السلام رأى في منامه كأنه على ذروة جبل وكأن يوسف في بطن الوادي فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله فدرأ عند واحد ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام، وأنا لم أجد لرواية الرؤيا مطلقاً سنداً يعول عليه ولا حاجة بنا إلى اعتبارها لتكلف الكلام فيها، وبالجملة ما وقع منه عليه السلام من هذا القول كان تلقينا للجواب من غير قصد وهو على أسلوب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 6‏]‏ والبلاء موكل بالمنطق‏.‏

وأخرج أبو الشيخ‏.‏ وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تلقنوا الناس فيكذبوا فان بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا‏:‏ أكله الذئب» والحزن ألم القلب لفوت المحبوب‏.‏ والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه، ولذلك أسند الأول إلى الذهاب به المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسع عليه السلام، والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب والذئب أصله الهمزة وهي لغة الحجاز، وبها قرأ غير واحد‏.‏

وقرأ الكسائي‏.‏ وخلف‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ ووريش‏.‏ والأعمش‏.‏ وغيرهم بابدالها ياءاً لسكونها وانكسار ما قبلها وهو القياس في مثل ذلك، وذكر بعضهم أنه قد همزه على الأصل ابن كثير‏.‏ ونافع في رواية قالون‏.‏ وأبو عمرو وقفاً، وابن عامر‏.‏ وحمزة درجاً وأبدلا وقفاً، ولعل ذلك لأن التقاء الساكنين في الوقف وإن كان جائزاً إلا أنه إذا كان الأول حرف مد يكون أحسن‏.‏

وقال نصر‏:‏ سمعت أبا عمر ولا يهمزه، والظاهر أنه أراد مطلقاً فيكون ما تقدم رواية وهذه أخرى، ويجمع على أذؤب‏.‏ وذئاب‏.‏ وذؤبان، واستقاقه عند الزمخشري من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ إن اشتقاق تذاءبت من الذب لأن الذئب يفعله في عدوه، قيل‏:‏ وهو أنسب ولذا عد تذاءبت الريح من المجاز في الأساس لكن قيل عليه‏:‏ إن أخذ الفعل من الأسماء الجامعدة كابل قليل مخالف للقياس ‏{‏وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون‏}‏ لاشتغالكم بالرتع واللعب‏.‏ أو لقلة اهتمامكم بحفظه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ أي والحال أنا جماعة جديرة بأن تعصب بنا الأمور وتكفي بآرائنا وتدبيراتنا الخطوب، واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا إِذَا لخاسرون‏}‏ جواب مجزىء عن الجزاء، والخسار إما بمعنى الهلاك تجوزاً عن الضعف‏.‏ أو استحقاقه، أو عن استحقاق الدعاء به أي بضعفاء عاجزون‏.‏ أو مستحقون للهلاك لاغناء عندنا ولا نفع في حياتنا، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار فيقال‏:‏ خسرهم الله تعالى ودمرهم إذ أكل الذئب أخاهم وهم معه، وجوز أن يكون بمعناه الحقيقي أي إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شيء عندنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف أبيهم عليه السلام من أكل الذئب مع أنه ذكر في وجه عدم مفارقته أمرين‏:‏ حزنه لمفارقته‏.‏ وخوفه عليه من الذئب لأنه السبب القوي في المنع دون الحزن لقصر زمانه بناءاً على سرعة عودهم به، أو لأن حزنه بالذهاب به إنما هو للخوف عليه، فنفي الثاني يدل على نفي الأول، أو لكراهتهم لذلك لأنه سبب حسدهم له فلذلك أعاروه أذناً صماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

فَلَمَّا ذَهَبُواْ به وَأَجْمَعُواْ‏}‏ أي عزموا عزماً مصمماً على ‏{‏‏}‏ أي عزموا عزماً مصمماً على ‏{‏أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب‏}‏ قيل‏:‏ هو بئر على ثلاث فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن، وقيل‏:‏ هو بين مصر ومدين، وقيل‏:‏ بنفس أرض الأردن، وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس، وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل وجواب لما محذوف إيذاناً بظهوره وإشعاراً بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا ما فعلوا، وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها، وقيل‏:‏ لا حذف والجواب أوحينا، والواو زائدة وليس بشيء‏.‏

قال وهب‏.‏ وغيره من أهل السير والأخبار‏:‏ إن إخوة يوسف عليه السلام قالوا‏:‏ أما تشتاف أن تخرج معنا إلى مواشينا فنتصيد ونستبق‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ بلى قالوا‏:‏ فسل أباك أن يرسلك معنا، فقال عليه السلام‏:‏ أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا‏:‏ يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب‏:‏ ما تقول يا نبي‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا أبت إني أرى من إخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لا حزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاءاً شديداً فأخذخ روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف‏:‏ مهلا يا أخي لا تقتلني، فقال له‏:‏ يا ابن راحيل أنت صاحب الاحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوي عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له‏:‏ اتق الله تعالى فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الأخوة ورق له فقال‏:‏ يا إخواتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به‏؟‏ قالوا‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ تلقونه في هذا الجب فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الاسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال‏:‏ يا إخوتاه ردوا على قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها، فقال لهم‏:‏ يا إخواتاه أتدعوني وحيداً‏؟‏ قالوا‏:‏ أدع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك‏.‏

وقيل‏:‏ جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها‏.‏

وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه الله تعالى إياه من الجنة حين ألقى في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف لما خرج مع ءخوته فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه أياه فأضاء له الجب، وعن الحسن أنه لما ألقى فيها عذب ماؤها وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه جبريل عليه السلام يؤنسه فلما أمسى نهض ليذهب فقال له‏:‏ إني أستوحش إذا ذهبت، فقال‏:‏ إذا رمت شيئاً فقل‏:‏ يا صريخ المستصرحين‏.‏ ويا غوث المستغيثين‏.‏ ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف عليه السلام حفتة الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم‏.‏

وقال محمد بن مسلم الطائفي‏:‏ إنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال‏:‏ يا شاهداً غير غائب ويا قريباً غير بعيدو يا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجاً مما أنا فيه، وقيل‏:‏ كان يقول‏:‏ يا إليه إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حللتي وصغر سني، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لما ألقى يوسف في الجب أتابه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا غلام من ألقاك في هذا الجب‏؟‏ قال‏:‏ إخوتي قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لمودة أبي إياي حسدوني، قال‏:‏ تريد الخروج من ههنا‏؟‏ قال‏:‏ ذاك إلى إله يعقوب، قال‏:‏ قل‏:‏ اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجاً ومخرجاً وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فقالها فجعل الله تعالى له من أمره فرجاً ومخرجاً ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ثم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ألظوا بهؤلاء الكلمات فانهن دعاء المصطفين الاخيار» وروى غير ذلك، والروايات في كيفية إلفائه‏.‏ وما قال‏.‏ وما قيل له كثيرة، وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه، والله تعالى أعلم ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ‏}‏ الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيراً له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له، وكان ذلك على ما روي عن مجاهد بالالهام؛ وقيل‏:‏ بالالقاء في مبشرات المنام، وقال الضحاك‏.‏ وقتادة‏:‏ بارسال جبريل عليه السلام إليه والموحى إليه ما تضمنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا‏}‏ وهو بشارة له بالخلاص أيضاً أي لتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بأنك يوسف لتباين حاليك‏:‏ حالك هذا‏.‏

وحالك يومئذ بعلو شأنك كوبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم، وقيل‏:‏ لبعد العهد المبدل للهيآت المغير للاشكال والأول أدخل في التسلية، أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن، فقال‏:‏ إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم‏:‏ إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض‏:‏ إن هذا الجام ليخبره بخبركم، ثم قال ابن عباس‏:‏ فلا نرى هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ‏}‏ الخ نزلت إلا في ذلك، وجوز أن يتعلق ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بالايحار على معنى أنا آنسناه بالوحي وازلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له‏.‏

وروي ذلك عن قتادة، وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند الضحاك‏.‏ واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن‏.‏ وسبع عشرة سنة عند ابن السائب وهو الذي يزعمه اليهود وقيل غير ذلك، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السلام لم يكن بالغاً الأربعين عند الايحاء إليه، نعم أكثر الأنبياء عليهم السلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحى إلى بعضهم كيحيى‏.‏ وعيسى عليهما السلام قبل ذلك بكثير‏.‏

وزعم بعضهم أن ضمير ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ يعود على يعقوب عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة‏.‏

وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم، فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ متعلق بأوحينا لا غير على ما قاله الزمخشري‏.‏ ومن تبعه، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لننبئنهم‏}‏ وأن يراد بانباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السلام وهم لا يشعرون بذلك، ودفع بأنه بناءاً على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعطيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء‏}‏ أي في ذلك الوقت‏.‏ وهو كماقال الراغب من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاآن‏:‏ المغرب‏.‏ والعتمة‏.‏

وعن الحسن أنه قرأ عشياً بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منوناً وهو تصغير عشى وهو من زوال الشمس إلى الصباح، وعنه أنه قرأ عشى بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفاً، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين، ولذا قيل‏:‏ كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفاً صحيحاً ساكاً ثم حذفت بعد قلبها ألفاً لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان؛ وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كان يضعف بصرهم لكثرة البكاء، وقيل‏:‏ هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال‏:‏ أوطأه عشوة أي أمراً ملتبساً يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيداً لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من العضيهة، وجوز أن يكون ‏{‏عشاءاً‏}‏ في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال، والظاهر الأول، وإنما جاءوا عشاء إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء، ولذا قيل‏:‏ لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاءوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشار يوم آخر‏؟‏ ظاهر كلام بعضهم الأول، وذهب بعضهم إلى الثاني بناءاً على ما روي أنه عليه السلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام‏.‏

وفي الكلام على ما في البحر حذف والتقدير ‏{‏يَشْعُرُونَ وَجَاءوا أَبَاهُمْ‏}‏ دون يوسف ‏{‏عشاءاً‏}‏ ‏{‏عِشَاء يَبْكُونَ‏}‏ أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن جزن لكنه يشبهه، وكثيراً ما يفعل بعض الكذابين كذلك، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال‏:‏ جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء ففجعلت تبكي فقالوا‏:‏ يا أيا أمية أما تراها تبكي‏؟‏ا فقال‏:‏ قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءاً يبكون، وقال الأعمش‏:‏ لا يصدق باك بعد إخوة يوسف، وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال‏:‏ ما بالكم أجري في الغنم شيء‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فما أصابكم وأين يوسف‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ‏}‏ أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روي عن السدى، أو في الرمي بالسهام كام قال الزجاج، أو في أعمال نتوزعها من شقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل، ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبد الله إنا ذهبنا ننتضل وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الاستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها، وأجيب باملنع وثمرته التدرب في العدو لحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا؛ وبالجملة ‏{‏نَسْتَبِقُ‏}‏ بمعنى نتسابق وقد يشترك الافتعال والتفاعل فيكونان بمعنى كالانتضال والتناضل ونظائرهما ‏{‏وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا‏}‏ أي ما يتمتع به من الثياب والازواد وغيرهما ‏{‏فَأَكَلَهُ الذئب‏}‏ عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعد تركه عليه السلام عنده ن باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذ لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا‏:‏ إنا لم نقصر في محافظته ولم نغفل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأى منا وما فارقناه إلا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام، والظاهر أنهم لم يريدوا إلا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضاً فما قيل‏:‏ إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة ‏{‏وَلَوْ كُنَّا‏}‏ عندك وفي اعتقادك ‏{‏صادقين‏}‏ أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا، قيل‏:‏ ولا بد من هذا التأويل إذ لو كان المعنى ‏{‏وَلَوْ كُنَّا صادقين‏}‏ في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم فيه، وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ في حال من الأحوال فتذكر وتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏ أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب‏:‏ هو الكذب بعينه والزور بذاته، ومن ذلك ما في قوله‏:‏

أفيضوا على عزابكم من بناتكم *** فما في كتاب الله أن يحرم الفضل

وفيهن فضل قد عرفنا مكانه *** فهن به ‏{‏جود‏}‏ وأنتم به ‏{‏مَن بَخِلَ‏}‏

> وبعضهم يؤوّل كذب بمكذوب فيه فإن المصدر قد يؤوّل بمثل ذلك، وقرأ زيد بن على رضي الله عنهماكذباً بالنصب وخرج على أنه في موضع الحال من فاعل ‏{‏جَاءوا‏}‏ بتأويل كاذبين، وقيل‏:‏ من دم على تأويل مكذوباً فيه، وفيه أن الحال من النكرة على خلاف القياس، وجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي جاءوا بذلك لأجل الكذب، وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها والحسن كدب بالدال المهملة وليس من قلب الذال دالاً بل هو لغة أخرى بمعنى كدر أو طرى أو يابس فهو من الاضداد، وقال صاحب اللوامح‏:‏ المعنى ذي كدب أي أثر لأن الكدب بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها فهو كالنقش ويسمى ذلك الفوق ولم يعتبر بعض المحققين تقدير المضاف وجعل ذلك من التشبيه البليغ أو الاستعارة فإن الدم في القميص يشبه الكدب من جهة مخالفة لونه لون ما هو فيه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏على قَمِيصِهِ‏}‏ على ما ذهب إليه أبو البقاء حال من دم، وفي جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف غير الزائد خلاف، والحق كما قال السفاقسي‏:‏ الجواز لكثرة ذلك في كلامهم، وفي اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلا أن يكون الحال ظرفاً على أن الحق ما اختاره ابن مالك من جواز التقديم مطلقاً، وقال الزمخشري‏.‏ ومن تبعه‏:‏ إنه في موضع النصب على الظرفية أي جاءوا فوق قميصه كما تقول‏:‏ جاء على جماله بأحمال، وأراد على ما في الكشف أن ‏{‏على‏}‏ على حقيقة الاستعلاء وهو ظرف لغو، ومنع في البحر كون العامل فيه المجيء لأنه يقتضي أن الفوقية ظرف للجائين، وأجيب بأن الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول‏.‏

وفي بعض الحواشي أن الأولى أن يقال‏:‏ جاءوا مستولين على قميصه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِدَمٍ‏}‏ حال من القميص، وجعل المعنى استولوا على القميص ملتبساً بدم جائين، وهو على ما قيل‏:‏ أولى من جاءوا مستولين لما تقرر في التضمين، والأمر في ذلك سهل فإن جعل المضمن أصلاً والمذكور حالا وبالعكس كل منهما جائز وإذا اقتضى المقام أحدهما رجح، واستظهر كونه ظرفاً للمجيء المتعدي، والمعنى أتوا بدم كذب فوق قميصه ولا يخفي استقامته، هذا ثم إن ذلك الدم كان دم سخلة ذبحوها ولطخوا بدمها القميص كما روي عن ابن عباس‏.‏

ومجاهد‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن قتادة أنهم أخذوا ظبياً فذبحوه فلظخوا بدمه القميص، ولما جاءوا به جعل يقلبه فيقول‏:‏ ما أرى به أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال‏:‏ تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمرق عليه قميصه، وجاء أنه بكى وصاح وخر مغشياً عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ومادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال‏:‏ ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر ‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ‏}‏ أي زينت وسهلت ‏{‏أمْراً‏}‏ من الأمور منكراً لا يوصف ولا يعرف، وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه‏.‏

وقال الراغب‏:‏ هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ كأن التسويب تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز، وقيل‏:‏ من البسول بفتحتين وهو استرخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه، وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب ‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ‏}‏ الخ، وعلمه عليه السلام بكذبهم قيل‏:‏ حصل من سلامة القميص عن التمزيق وهي إحدى ثلاثة آيات في القميص‏:‏ ثانيتها عود يعقوب بصيراً بالقائه على وجهه، وثالثتها قده من دبر فانه كان دليلاً على براءة يوسف، وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب، وقيل‏:‏ من تناقضهم فانه يروى أنه عليه السلام لما قال‏:‏ ما تقدم عن قتادة قال بعضهم‏:‏ بل قتله اللصوص فقال‏:‏ كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله‏؟‏ا ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السلام لما خشى عليه من المكروه والشدائد غير الموت، وقيل‏:‏ إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق، ولذلك قيل‏:‏

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت *** لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

ولا بأس بأن يبقال‏:‏ إنه أحزنه فراقه وخوف أن يناله مكروه ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ أي فأمرى صبر جميل، أو فصبري صبر جميل كما قال قطرب، أو فالذي أفعله ذلك كما قال الخليل‏.‏ أو فهو صبر الخ كما قال الفراء، وصبر في كل ذلك خبر مبتدأ محذوف‏.‏ أو فصبر جميل أمثل وأجمل على أنه مبتدأ خبره محذوف، وهل الحذف في مثل ذلك واجب‏.‏ أو جائز‏؟‏ فيه خلاف، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني‏؟‏‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ والأشهب‏.‏ وعيسى بن عمر فصبراً جميلاً بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك، وروي ذلك عن الكسائي، وخرج على أن التقدير فاصبر صبراً على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلا مع الأمر، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال‏:‏ صبراً جميلاً على معنى فاصبري يا نفس صبراً جميلاً، والصبر الجميل على ما روي الحسن عنه صلى الله عليه وسلم ما لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال‏:‏ طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكو إلى غيري، فقال يا رب خطيئة فاغفرها‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من قوله‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ أني اتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جداً ‏{‏والله المستعان‏}‏ أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السلام للاستعانة المستمرة ‏{‏على مَا تَصِفُونَ‏}‏ متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعمته وهو قد يكون صدقاً وقد يكون كذباً، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏]‏ بل قيل‏:‏ إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذباً بسلامة بوسف عليه السلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير ‏{‏عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 83‏]‏ بعد قوله فيما بعد‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الإفك‏:‏ والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل‏:‏ المراد إنه تعالء المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السلام بعد أن قال‏:‏ صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جل وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ يجرى مجرى ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏والله المستعان على مَا تَصِفُونَ‏}‏ يَجْرِى مجرى ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو‏:‏ أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لاسيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السلام التفتيش والسعى في تخليص يوسف عليه السلام من البلية والشدة إن كان حياً، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه بل قد يقال‏:‏ إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالماً بأنه حي سليم لقوله‏:‏

‏{‏وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 6‏]‏ فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضاً إنه عليه السلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظماً في النفوس مشهوراً في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلا مذموم عقلاً وشرعاً‏؟‏ ثم قال‏:‏ والجواب أن نقول‏:‏ لا جواب عن ذلك إلا أن يقال‏:‏ إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديداً للمحنة وتغليظاً للأمر، وأيضاً لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضاً لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا طلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن أنتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله‏:‏

قومي هم قتلوا أميم أخي *** فإذا رميت يصيبني سهمي

ولئن عفوت لأعفون جللا *** ولئن سطوت لموهن عظمي

فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا‏:‏ إنه عليه السلام كان عالماً بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءتْ‏}‏ شروع فيما جرى على يوسف عليه السلام في الجب بعد الفراغ عن ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه أي وجاءت إلى الجب ‏{‏سَيَّارَةٌ‏}‏ رفقة تسير من جهة مدين إلى مصر وكان ذلك بعد ثلاثة أيام مضت من زمن القائه في قول، وقيل‏:‏ في اليوم الثاني، والظاهر أن الجب كان في طريق سيرهم المعتاد‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطأوا الطريق فأصابوه ‏{‏فَأَرْسَلُواْ‏}‏ إليه ‏{‏وَارِدَهُمْ‏}‏ الذي يريد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالن بن ذعر الخزاعي‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة اه والظاهر الأول، والتأنيق في ‏{‏جَاءتِ‏}‏ والتذكير في ‏{‏أُرْسِلُواْ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ‏}‏ باعتبار اللفظ والمعنى، وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة يوسف عليه السلام عند ربه سبحانه، وحذف متعلقة وكذا متعلقة وكذا متعلق الإرسال لظعوره ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فأدلى دَلْوَهُ‏}‏ أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء، ويقال‏:‏ دلا الدلو إذا أخرجها ملأي، والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل‏.‏ ودلاء ودلى‏.‏

وقال ابن الشحنة‏:‏ إن الدلو التي يستقي بها مؤنثة وقد تذكر، وأما الدلو مصدر دلوت وضرب من السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عنه محمد بن الجهم، وعن بعضهم أنه مذكر لا غير وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور، ويقال في تضغيرها‏:‏ بويرة؛ وفي جمعها آباء‏.‏ وأبار‏.‏ وأبؤر‏.‏ وبثار، وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج ‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال‏.‏

‏{‏يابشرى هذا غلام‏}‏ نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالى فهذا أوان حضورك، وقيل‏:‏ المنادي محذوف كما في ياليت أي يا قومي انظروا واسمعوا بشراي، وقيل‏:‏ إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء‏.‏

وزعم بعضهم أن بشرى اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه، وروي هذا عن السدى وليس بذاك وقرأ غير الكوفيين يا بشراي بالإضافة، وأمال فتحة الراء حمزة‏.‏ والكسائي، وقرأ وريش بين اللفظين‏.‏

وروي عن نافع أنه قرأ يا بشراي بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين عغلى غيره وحده، واعتذر بأنه أجري الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره، وقيل‏:‏ جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة، وقرأ أبو الطفيل‏.‏ والحسن‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ والجحدري ‏{‏الرياح بُشْرىً‏}‏ بقلب الألف ياءاً وإدغامها في ياء الاضافة وهي لغة لهذيل‏.‏

ولناس غيرهم ومن ذلك قول أبي ذؤيب‏:‏

سبقوا ‏(‏هوى‏)‏‏}‏ وأعنقوا لهواهم *** فتخرموا ولكل جنب مصرع

ويقولون‏:‏ يا سيدي‏.‏ ومولى، والغلام كثيراً ما يطلق على ما بين الحولين إلى البلوغ، وقد يطلق على الرجل الكامل كما في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف الثقفي‏:‏

غلام إذا هز القناة سقاها *** والظاهر أن التنوين فيه للتغخيم، وحق له ذلك فقد كان عليه من أحسن الغلمان، وذكر البغوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أعطي يوسف شطر الحسن‏.‏»

وقال محمد بن إسحق‏:‏ ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن، وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوى الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإن تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه قبل أن يصيب الخطيئة، ويحكى أن جوانب الجب بكت عليه حين خرج منها، ولعله من باب بكت الدار لفقد فلان، والظاهر أن قول الوارد ‏{‏قَالَ يابشرى هذا غُلاَمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 91‏]‏ كان عند وؤيته، وقيل‏:‏ إنه حين وروده على أصحابه صاح بذاك ‏{‏وَأَسَرُّوهُ‏}‏ أي أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة حتى لا تراه فتطمع فيه، وقيل‏:‏ أخفوا أمره وكونه وجد في البئر، وقالوا لسائر القافلة‏:‏ دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، وقيل‏:‏ الضمير لإخوة يوسف، وذلك أن بعضهم رجع ليتحقق أمره فرآه عند السيارة فأخبر إخوته فجاءوا إليهم فقالوا‏:‏ هذا غلام أبق لنا فاشتروه منا فاشتروه وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، وفي رواية أنهم قالوا بالعبرانية‏:‏ لا تنكر العبودية نفتلك فأقر بها واشتروه منهم، وقيل‏:‏ كان يهوذا يأتيه بالطعام فأتاه يوم أخرج فلم يجده في الجب ووجده عند الرفقة فأخبر إخوته فأتوهم فقالوا ما قالوا، وروي كون الضمير للاخوة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قيل‏:‏ وهو المناسب لإفراد ‏{‏قَالَ‏}‏ وجمع ضمير أسروا وللوعيد الآتي قريباً إن شاء الله تعالى، وليس فيه اختلاف في النظم، ولا يخفى أن الظاهر ما أشير إليه أولا، ونصب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بضاعة‏}‏ على الحال أي أخفوه حال كونه متاعاً للتجارة، وفي الفرائد أنه ضمن أسروه معنى جلعوه أي جعلوه بضاعة مسرين إياه فهو مفعول به‏.‏

وقال ابن الحاجب‏:‏ يحتمل أن يكون مفعولاً له أي لأجل التجارة وليس شرطه مفقوداً لاتحاد فاعله وفاعل الفعل المعلل به إذ المعنى كتموه لأجل تحصيل المال به، ولا يجوز أن يكون تمييزاً وهو من البضع بمعنى القطع وكأن البضاعة إنما سميت بذلك لأنها تقطع من المال وتجعل للتجارة، ومن ذلك البضع بالكسر بما بين الثلاث إلى العشرة أو لما فوق الخمس ودون العشرة، والبضيعة للجزيرة المنقطعة عن البر، واعتبر الراغب في البضاعة كونها قطعة وافرة من المال تقتني للتجارة ولم يعتبر الكثير كونها وافرة ‏{‏وَاللَّهِ عَليمُ بمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ لم يخف عليه سبحانه اسرارهم، وصرح غير واحد أن هذا وعيد لإخوة يوسف عليه السلام على ما صنعوا بأبيهم وأخيهم وجعلهم إياه، وهو هو عرضة للابتذال بالبيع والشراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَشَرَوْهُ‏}‏ الضمير المرفوع إما للاخوة فشرى بمعنى باع، وإما للسيارة فهو بمعنى اشترى كما في قوله‏:‏ ‏(‏وشريت‏)‏‏}‏ برداً ليتني *** من بعد برد كنت هامه

وقوله‏:‏ ولو أن هذا الموت يقبل فدية *** ‏(‏شريت‏)‏‏}‏ أبا زيد بما ملكت يدي

وجوز أن يكون على هذا الوجه بمعنى باع بناءاً على أنهم باعوه لما التقطوه من بعضهم ‏{‏بِثَمَنٍ بَخْسٍ‏}‏ أي نقص وهو مصدر أريد به اسم المفعول أي منقوص، وجوز الراغب أن يكون بمعنى باخس أي ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً، وقال مقاتل‏:‏ زيف ناقص العيار، وقال قتادة‏:‏ بخس ظلم لأنه ظلموه في بيعه، وقال ابن عباس‏.‏ والضحاك في آخرين‏:‏ البخس الحرام وكان ذلك حراماً لأنه ثمن الحر وسمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة أي منقوصها، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏دراهم‏}‏ بدل من ثمن أي لا دننانير ‏{‏مَّعْدُودَةً‏}‏ أي قليلة وكنى بالعدّ عن القلة لأن الكثير يوزن عندهم وكان عدة هذه الدراهم في كثير من الروايات عشرين درهماً، وفي رواية عن ابن عباس اثنين وعشرين، وفي أخرى عنه عشرين وحلة ونعلين، وقيل‏:‏ ثلاثين وحلة ونعلين، وقيل‏:‏ ثمانية عشر اشتروا بها أخفافاً ونعالاً، وقيل‏:‏ عشرة، وعن عكرمة أنها كانت أربعين درهماً، ولا يأبى هذا ما ذكره غير واحد من أن عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهماً إذ ليس فيه نفي أن الأربعين قد تعدّ ‏{‏وَكَانُواْ فِيهِ‏}‏ أي في يوسف كما هو الظاهر ‏{‏مِنَ الزهدين‏}‏ أي الراغبين عنه، والضمير في ‏{‏وَكَانُواْ‏}‏ إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن وإن كان لهم وكانوا مبتاعين بأن اشتروه من بعضهم أو من الإخوة فزهدهم لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏فِيهِ‏}‏ للثمن وزهدهم فيه لرداءته أو لأن مقصودهم ليس إلا إبعاد يسوف عليه السلام وهذا ظاهر على تقدير أن يكون ضمير ‏{‏كَانُواْ‏}‏ للإخوة، والجار على ما نقل عن ابن مالك متعلق بمحذوف يدل عليه الزاهدين أي كانوا زاهدين فيه من الزاهدين، وذلك أن اللام في الزاهدين اسم موصول ولا يتقدم ما في صلة الموصول عليه، ولأن ما بعد الجار لا يعمل فيما قبله، وهل ‏{‏مِنَ الزهدين‏}‏ حينئذ صفة لزاهدين المحذوف مؤكدة كما تقول‏:‏ عالم من العلماء‏.‏ أو صفة مبينة أي زاهدين بلغ بهم الزهد إلى أن يعدّوا في الزاهدين لأن الزاهد قد لا يكون عرقياً في الزاهدين حتى يعدّ فيهم إذا عدّوا‏.‏

أو يكون خبراً ثانياً‏؟‏ كل ذلك محتمل، وليس بدلا من المحذوف لوجود ‏{‏مِنْ‏}‏ معه، وقدر بعضهم المحذوف أعنى وأنا فيه من الزاهدين، وقال ابن الحاجب في أماليه‏:‏ إنه متعلق بالصلة والمعنى عليه بلا شبهة وإنما فروا منه لما فهموا من أن صلة الموصول لا تعمل فيما قبل الموصول مطلقاً، وبين صلة أل وغيرها فرق فان هذه على صورة الحرف المنزل منزلة الجزء من الكلمة فلا يمتنع تقديم معمولها عليها فلا حاجة إلى القول بأن تعلقه بالمذكور إنما هو على مذهب المازني الذي جعل أل في مثل ذلك حرف تعريف وكأنه لا يرى تقدم معمول المجرور ممتنعاً وإلا لم يتم بما ذكره ارتفاع المحذور‏.‏

وزعم بعضهم أنه يلزم بعد عمل اسم الفاعل من غير اعتماد من الغفلة بمكان لأن محل الخلاف عمله في الفاعل والمفعول به الصريح لا في الجار والمجرور الذي يكفيه رائحة الفعل؛ وقال بعض المتأخرين‏:‏ إن الصفة هنا معتمدة على اسم كانوا وهو مبتدأ في الأصل، والاعتماد على ذلك معتبر عندهم، ففي الرضى عن، قول ابن الحاجب‏:‏ والاعتماد على صاحبه ويعني بصاحبه المبتدأ إما في الحال نحو زيد ضارب أخواه‏.‏ أو في الأصل نحو كان زيد ضارباً أخواه‏.‏ وظننتك ضارباً أخواك وإن زيداً ضارب غلاماه، وعلى هذا لا يحتاج في الجواب إلى إخراج الجار والمجرور عن حكم الفاعل والمفعول به الصريح وإن كان له وجه وجيه خلافاً لمن أنكره، ومن الناس من يتمسك بعموم يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما في دفع ما يورد على تعلق الجار هنا بالصفة المجرور الواقعة صلة لال كائناً ما كان فلفهم‏.‏

هذا والشائع أن الباعة إخوته‏.‏ والزاهدين هم، وفي بعض الآثار أنهم حين باعوه قالوا للتأجر‏:‏ إنه لص آبق فقيده ووكل به عبداً أسود فلما جاء وقت ارتحالهم بكى عليه السلام فقال له التاجر‏:‏ مالك تبكى‏؟‏ فقال‏:‏ أريد أن أصل إلى الذين باعوني لأودعهم وأسلم عليهم سلام من لا يرجع إليهم، فقال التاجر للعبد‏:‏ خذه واذهب به إلى مواليه ليودعهم ثم ألحقه بالقافلة فما رأيت غلاماً أبر من هذا بمواليه ولا قوماً أجفى منهم فتقدم العبد به إلى إخوته وكان زاحد منهم مستيقظاً يحرس الأغنام فلما وصل إليه يوسف وهو يعثر في قيده انكب عليه وبكى، فقال له‏:‏ لماذا جئت‏؟‏ فقال‏:‏ جئت لأودعكم وأسلم عليكم فصاح عليهم أخوهم قوموا إلى من أتاكم يسلم عليكم سلام من لا يرجو أن يراكم أبداً فويل لكم من هذا الوداع فقاموا فجعل يوسف ينكب على كل واحد منهم ويقبله ويعانقه، ويقول‏:‏ حفظكم الله تعالى وإن ضيعتموني آواكم الله تعالى وإن طرتموني رحمكم الله تعالى وإن لم ترحموني‏.‏

قيل‏:‏ إن الأغنام ألقت ما في بطونها من هول هذا التوديع، ثم أخذه العبد وطلب القافلة فبينما هو على الراحلة إذ مر بقبر أمه راحيل في مقابر كنعان فلما أبصر القبر لم يتمالك أن رمى بنفسه عليه فاعتنقه وجعل يبكي ويقول‏:‏ يا أماه ارفعي رأسك من التراب حتى ترى ولدك مقيداً يا أماه إخوتي في الجب طرحوني ومن أبي فرقوني وبأبخس الأثمان باعوني ولم يرقوا لصغر سني ولم يرحموني فأنا أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبين والدي في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين‏.‏ فالتفت العبد فلم يره فرجع رآه على القبر فقال‏:‏ والله لقد صدق مواليك إنك عبد آبق ثم لطمه شديده فغشي عليه ثم أفاق فقال له‏:‏ لا تؤاخذني هذا قبر أمي نزلت أسلم عليها ولا أعود بعد لما تكرهه أبداً ثم رفع عينيه إلى السماء وقد تمرغ بالتراب والدموع في وجهه فقال‏:‏ اللهم إن كانت لي خطيئة أخلقت وجهي عندك فبحرمة آبائي الكرام إبراهيم وإسحق ويعقوب أن تعفو عني وترحمني يا أرحم الراحمين فضجت الملائكة إلى الله تعالى عند ذلك فقال تبارك وتعالى‏:‏ يا ملائكتي هذا نبي وابن أنبيائي وقد استغاث بى وأنا مغيثه ومغيث المستغيثين يا جبريل أدركه فنزل جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا صديق الله ربك يقرئك السلام ويقول لك‏:‏ مهلاً عليك فقد أبكيت ملائكة السموات السبع أتريد أن أطبق السماء على الأرض‏؟‏ فقال‏:‏ لا يا جبريل ارفق بخلق ربي فإنه حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فهبت ريح حمراء وكسفت الشمس وأظلمت الغبراء فلم ير أهل القافلة بعضهم بعضاً، فقال التاجر‏:‏ انزلوا قبل أن تهلكوا إن لي سنين عديدة أم بهذا الطريق فما رأيت كاليوم فمن أصاب منكم ذنباً فليتب منه فما أصابنا هذا إلا بذنب اقترفناه فأخبره العبد بما فعل مع يوسف، وقال يا سيدي‏:‏ إني لما ضربته رفع عينيه إلى السماء وحرك شفتيه فقال له التاجر‏:‏ ويحك أهلكتنا وأهلكت نفسك فتقدم إليه التاجر وقال‏:‏ يا غلام إنا ظلمناك حين ضربناك فإن شئت أن تقتص منها فها نحن بين يديك‏؟‏ فقال يوسف‏:‏ ما أنا من قوم إذا ظلموا يقتصرون ولكني من أهل بيت إذا ظلموا عفوا وغفروا ولقد عفوت عنكم رجاء أن يعفوا الله تعالى عني فانجلت الظلمة وسكنت الريح وأسفرت الشمس وأضاءت مشارق الأرض ومغاربها فساروا حتى دخلوا مصر آمنين وكان هذا التاجر فيما قيل‏:‏ مالك بن ذعر الذي أخرجه من الجب، وقيل‏:‏ غيره‏.‏

وروي أنه حين ورد به مصر باعه بعشرين ديناراً‏.‏ وزوجي نعل‏.‏ وثوبين أبيضين، وقيل‏:‏ أدخل السوق للبيع فترافعوا في ثمنه حتى بلغ وزنه مسكا‏.‏ ووزنه ورقا‏.‏ ووزنه حريراً فاشتراه بذلك العزيز الذي كان على خزائن مصر عند ملكها، وقيل‏:‏ كان خباز الملك وصاحب شرابه ودوا به صاحب السجن المشهور، والمعول عليه هو الأول، واسمه قطفير‏.‏ أو اطفير‏.‏ أو قنطوراً، والأول مروى عن ابن عباس

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ‏}‏ فهذا الشراء غير الشراء السابق الذي كان بثمن بخس، وزعم اتحادهما ضعيف جداً وإلا ر يبقى لقوله‏:‏ ‏{‏مِن مّصْرَ‏}‏ كثير جدوى، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي ومات في حياة يوسف عليه السلام بعد أن آمن به فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه إلى الايمان فأبى‏.‏

وقيل‏:‏ كان الملك في أيامه فرعون موسى عليه السلام عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُم موسى بالبينات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 92‏]‏، وقيل‏:‏ فرعون موسى عليه السلام من أولاد فرعون يوسف عليه السلام، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء وهو الصحيح، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً‏.‏

واستدل في البحر على ذلك بكون الصنم في بيته حسبما يذكر في بعض الروايات‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كان مؤمناً، ولعل مراده أنه آمن بعد ذاك وإلا فكونه مؤمناً يوم الاشتراء مما لا يكاد يسلم، نعم إنه اعتنى بأمر يوسف عليه السلام ولذا قال‏:‏ ‏{‏لاِمْرَأَتِهِ‏}‏ راعيل بنت رعابيل، وهو المروى عن مجاهد‏.‏

وقال السدى‏:‏ زليخا بنت تمليخا، وقيل‏:‏ اسمها راعيل ولقبها زليخاً، وقيل‏:‏ بالعكس، والجار الأول كما قال أبو البقاء‏:‏ متعلق باشتراه كقولك‏.‏ اشتريته من بغداد أي فيها أو بها، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الذي‏.‏ أو من الضمير في اشترى أي كائناً من أهل مصر، والجار الثاني متعلق بقال كما أشرنا إليه لا باشتراه ومقول القول‏:‏ ‏{‏أَكْرِمِى‏}‏ أي اجعلي محل ثوائه وإقامته كريما أي حسناً مرضيا، وهذا كناية عن إكرامه عليه السلام نفسه على أبلغ وجه وأتمه لأن من أكرم المحل بتنظيفه وفرشه ونحو ذلك فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به، وقيل‏:‏ المثوى مقحم يقال‏:‏ الملجس العالي‏.‏ والمقام السامي، والمعنى أحسنى تعهده والنظر فيما يقتضيه إكرام الضيف ‏{‏عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ في قضاء مصالحنا إذا تدرب في الأمور وعرف مجاريها ‏{‏أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ أي نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان فيما يروى عقيماف، ولعل الانفصال لمنع الخلو‏.‏

وزعم بعضهم أنه لمنع الجمع على معنى عسى أن نبيعه فننتفع بثمنه وليس بشيء، وكان هذا القول من العزيز لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة، ومن ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه سعيد بن منصور‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وجماعة‏:‏ أفرس الناس ثلاثة‏:‏ العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته‏:‏ ‏{‏أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ الخ‏.‏ والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها‏:‏ ‏{‏ياأبت استجره‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏ وأبو بكر حين استخلف عمر ‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض‏}‏ أي جعلنا له فيها مكاناً يقال‏:‏ مكنه فيه أي أثبته فيه‏.‏

ومكن له فيه أي جعل له مكاناً فيه، ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في مقام الآخر قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏ والمراد بالمكان هنا المكانة والمنزلة لا البعد المجرد أو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوى أو غير ذلك مما ذهب إليه من ذهب من الفلاسفة إن حقاً وإن باطلاً، والإشارة إلى ما يفهم مما تقدم من الكلام وما فيه من معنى البعد لتفخيمه، والكاف نصب على المصدرية أي كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيز أو مكاناً عليا في قلبه حتى أمر امرأته دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر، وفسر الجعل المذكور بجعله وجيهاً فيما بين أهل مصر ومحبباً في قلوبهم بناءاً على أنه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث‏}‏ أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك‏.‏ وصاحبي السجن، وروي هذا المعنى عن مجاهد، وهو الظاهر كما يرشد إليه قوله عليه السلام ‏{‏ذلك مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏ سواء جعل معطوفاً على غاية مقدرة ينساق إليها الكلام ويستدعيها النظام كأنه قيل‏:‏ ومثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف في الأرض وجعلنا قلوب أهلها كافة محال محبته ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز‏.‏ ولنعلمه بعض تأويل الأحاديث فيؤدي ذلك إلى الرتبة العليا والرياسة العظمى، ولعل ترك المعطوف عليه للاشعار بعدم كونه مراداً أو جعل علة لمحذوف كأنه قيل‏:‏ ولهذه الحكمة البالغة فعلنا ذلك التمكين لا لشيء غيرها مما ليس له عاقبة حميدة‏.‏

واختار بعض المحققين كون ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده، والكاف مقحمة للدلالة على تأكيد فخاة شأن المشار إليه على ما ذكروا في ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ والمراد به التمكين في قلب العزيز أو في منزلة وكون ذلك تمكيناً في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها لما أن الذي عليه يدور تلك الأمور إنما هو التمكين في جانب العزيز، وأما التمكين في جانب الناس كافة فتأديته إليها إنما هي باعتبار اشتماله على ذلك التمكين، ولا يخفى أن حمل التمكين في الأرض على التمكين في قلب العزيز‏.‏ أو في منزله خلاف الظاهر، وكذا حمله على ما تقدم، ولعل الظاهر حمله على جعله ملكاً يتصرف في أرض مصر بالأمر والنهي إلا أن في جعل التعليم المذكور غاية له خفاء لأن ذلك الجعل من آثاره ونتائجه المتفرعة عليه دون العكس ولم يعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العمل بموجب الرأيا المنبهة على الحوادث قبل وقوعها عهداً مصححاً لجعله غاية لذلك وام وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عمل بموجب الرؤيا السابقة المعهودة وإرادة ليظهر تعليمنا له كما ترى، وكأن من ذهب إلى ذلك لأنه الظاهر أراد بتعليم تأويل الأحاديث تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرض مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معاني كتب الله تعالى وأحكامها ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها بين أهلها، والتعليم الإجمالي لتلك الأحاديث وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى إلا أن تعليم كل معنى شخصي يتفق في ضمن الحوادث والإرشاد إلى الحق في كل نازلة من النوازل متأخر عن ذلك صالح لأن يكون غاية له، وأدرج بعضهم الإنجاء تحت الاشارة بذلك، وفيه بحث فتدبر‏.‏

‏{‏والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ‏}‏ لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد بل إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون، ويدخل في عموم المصدر المضاف شؤونه سبحانه المتعلقة بيوسف عليه السلام دخولاً أولياً أو متول على أمر يوسف عليه السلام فيدبره ولا يكله إلى غيره، وإلى رجوع ضمير أمره إلى الله تعالى ذهب ابن جبير، وإلى رجوعه إلى يوسف عليه السلام ذهب القرطبي، وأياً مّا كان فالكلام على ما في الكشف تذييل أما على الأول فلجريه مجرى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ من سابقه لأنه لما كان غالباً على جميع أموره لا يزاحمه أحد ولا يمتنع عليه مراد كانت إرادته تمكين يوسف وكيت وكيت، والوقوع رضيعي لبان، وأما على الثاني فلأن معناه أنه الغالب على أمره يتولاه بلطيف صنعه وجزيل إحسانه وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل فأين يقع كيد الاخوة وغيرهم كامرؤة العزيز موقعه فهو كقوله‏:‏ وعلام أركعبه إذا لم أنزل *** من سابقه أعنيفدعوا نزال فكنت أول نازل

والآية على الأول صريحة في مذهب أهل السنة ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الأمر كذلك فيما يأتون ويذرون زعماً منهم أن لهم من الأمر شيئاً، وأنى لهم ذلك‏؟‏ا وأن الأمر كله لله عز وجل، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله، والمراد بأكثر الناس قيل‏:‏ الكفار، ونقل ذلك عن ابن عطية‏.‏

وقيل‏:‏ أهل مصر، وقيل‏:‏ أهل مكة، وقيل‏:‏ الأكثر بمعنى الجميع، والمراد أن جميع الناس لا يطلعون على غيبه تعالى، والأولى أن يبقى على ما يتبادر منه ولا يقتصر في تفسيره على ما تضمنته الأقوال قبل، بل يراد به من نفى عنه العلم بما تقدم كائناً ما كان، ولا يبعد أن يندرج في عمومه أهل الاعتزال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ أي بلغ زمان انتهاء اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف عن النمو المعتد به أعني ما بين الثلاثين والأربعين، وسئل القاضي النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب الخيمي عنه، فقال‏:‏ هو خمس وثلاثون سنة وتمامه أربعون‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هو سبعة عشر عاماً إلى نحو الأربعين، وعن مجاهد‏.‏ وقتادة ورواه ابن جبير عن ابن عباس أنه ثلاثة وثلاثون‏.‏ أو ثلاثون‏.‏ أو أحد وعشرون، وقال الضحاك‏:‏ عشرون، وحكى ابن قتيبة أنه ثمان وثلاثون‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أربعون، والمشهور أن الإنسان يقف جمسه عن النمو إذا بلغ ذلك، وإذا وقف الجسم وقفت القوى والشمائل والأخلاق ولذا قيل‏:‏

إذا المرء وفي الأربعين ولم يكن *** له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى *** وإن جر أسباب الحياة له العمر

وقيل‏:‏ أقصى الأشد إثنان وستون، وإلى كون الأشد منتهى الشباب والقوة قبل أن يؤخذ في النقصان ذهب أبو عبيدة‏.‏ وغيره من ثقات اللغويين، واستظهره بعض المحققين، وهو عند سيبويه جمع واحده شدة كنعمة‏.‏ وأنعم وقال الكسائي‏.‏ والفراء‏:‏ إنه جمع شدّ نحو صك‏.‏ وأصك، وفلس‏.‏ وأفلس وهذا على ما ذكر أبو حاتم يوجب أن يكون مؤنثاً لأن كل جميع على أفعل مؤنث‏.‏

وزعم عن أبي عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب، وقال الفراء‏:‏ أهل البصرة يزعمون أنه اسم واحد لكنه على بناء ندر في المفردات وقلما رأينا اسماً على أفعل إلا وهو جمع ‏{‏ءاتيناه حُكْماً‏}‏ أي حكمة وهي في لسان العشر العلم النافع المؤيد بالعمل لأنه بدونه لا يعتدّ به، والعمل بخلاف العلم سفه، أو حكماً بين الناس ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ يعني علم تأويل الرؤيا، وخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله، أو أفراد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف عن هواها وصونها عما لا ينبغي‏.‏ والعلم هو العلم النظري، وقيل‏:‏ أراد بالحكمة الحكم بين الناس‏.‏ وبالعلم العلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي‏.‏

وعن ابن عباس أن الحكم النبوة‏.‏ والعلم الشريعة وتنكيرهما للتفخيم أي حكماً وعلماً لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما، وتعقب كون المراد بالعلم العلم بتأويل الأحاديث بأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك الجزاء العجيب ‏{‏نَجْزِى المحسنين‏}‏ أي كل من يحسن في علمه يأباه لأن ذلك لا يصلح أن يكون جزاءاً لأعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيام البلاء صح أن يعد إيتاءه من جملة الجزاء؛ وأما رؤيا صاحبي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرها في السجن بضع سنين، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ما آتاه لكونه محسناً في أعماله متقناً في عنفوان أمره، ومن هنا قال الحسن‏:‏ من أحسن عبادة الله سبحانه في شبيبته آتاه الله تعالى الحكمة في اكتهاله، واستشكل ما أفاده تعليق الحكم بالمشتق من العلية على تقدير أن يراد من الحكمة العلم المؤيد بالعمل مثلاً بأن إحسان العمل لا يكون إلا بعد العلم به فلو كان العلم المؤيد به مثلاً علة للإحسان بذلك لزم الدور‏.‏

وأجيب بأن إحسان العمل يمكن أن يكون بطريق آخر كالتقليد والتوفيق الإلهي فيكون سبباً للعلم به عن دليل عقلي أو سمعي، أو المراد الأعمال الغير المتوقفة على السمع فيكون ذلك السبب للعلم بما شرع له من الأعمال، وقال بعض المحققين‏:‏ الظاهر تغاير العلمين كما في الأثر «من عمل بما علم يسر الله تعالى له علم ما لم يعلم» وعن الضحاك تفسير ‏(‏المحسنين‏)‏‏}‏ بالصابرين على النوائب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا‏}‏ رجوع إلى شرح ما جرى عليه عليه السلام في منزل العزيز بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 21‏]‏ إلى هنا اعتراض جىء به أنموذجاً للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السلام من الفتن التي ستحكي بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في أعماله لم يصدر عنه ما يخل بنزاهته، والمراودة المطالبة برفق من راد يرود إذا ذهب وجاء لطلب شيء، ومنه الرائد لطالب الكلأ والماء، وباعتبار الرفق قيل‏:‏ رادت الإبل في مشتيها ترود رودانا، ومنه بنى المرود؛ ويقال‏:‏ أرود يرود إذا رفق، ومنه بني رويد، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون‏.‏ ومداواة الطبيب‏.‏ وغير ذلك مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما، قال شيخ الإسلام‏:‏ وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم‏:‏ كما تدين تدان‏.‏ أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادىء وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سبباً للجزاء أطلق عليه اسمه، وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سبباً للقيام‏.‏ والقراءة عبر عنهما بهما فقيل‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏ وهذه قاعدة مطردة مستمرة، ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي من جانب الدائن، وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض، وكذلك مرادوتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال فبنى الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل اه‏.‏

وكأنه أشار بالأمر بالتأمل إلى ما فيه مما لا يخفى على ذويه، وفي «الكشف» المراودة منازعة في الرود بأن يكون له مقصد مجيئاً وذهاباً وللمفاعل مقصد آخر يقابله فيهما، ومعنى المفاعلة ههنا إما المبالغة في رودها أو الدلالة على اختلافهما فيه فإنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك وهذا أبلغ ولما كان منازعة جىء بعن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَن نَّفْسِهِ‏}‏ كما تقول‏:‏ جاذبته عن كذا دلالة على الأبعاد وتحصيل الجذب البالغ، ولهذا قال في الأساس‏:‏ ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها‏.‏

وقال الزمخشري هنا‏:‏ أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الرود، ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لموافقته إياها، والعدول عن التصريح باسمها للمحافطة على الستر ما أمكن‏.‏ أو للاستهجان بذكره، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة، وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء باعتبار أنهن القائمات بمصالحة أو الملازمات له، وخرج على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ وكثر في كلامهم صاحبة البيت‏.‏ وربة البيت للمرة، ومن ذلك‏:‏ يا ربة البيت قومي غير صاغرة *** ‏{‏وَغَلَّقَتِ‏}‏ أي أبواب البيت، وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا‏:‏ إن الأبواب كانت سبعة كما قيل، فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق، وجمع ‏{‏لَّهُمُ الابواب‏}‏ حينئذٍ إما لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده، وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان‏:‏ باب الدار، وباب الحجرة التي هما فيها‏.‏

وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللاً ذلك بأن ‏{‏لَّهُمُ الابواب‏}‏ غلقاً لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري، ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فاختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين، ولذا قال الجوهري أيضاً‏:‏ ‏{‏وَغَلَّقَتِ الابواب‏}‏ شدد للتكثير اه‏.‏

وفي «الحواشي الشهابية» أنه لم يتنبه الراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الردىء الذي ذكره اللغويون إنما هو استعمال الثلاثي منه لا أن له ثلاثياً لازماً حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئاً أو فصيحاً فتعين أنه للتكثير، وقد قال بذلك غير واحد، فالواهم ابن أخت خالة الموهم فافهم‏.‏

‏{‏وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ‏}‏ أي أسرع فهي اسم فعل أمر مبني على الفتح كأين، وفسرها الكسائي‏.‏ والفراء بتعال، وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها؛ وقال أبو زيد‏:‏ هي عبرانية، وعن ابن عباس‏.‏ والحسن هي سريانية، وقال السدي‏:‏ هي قبطية‏.‏

وقال مجاهد‏.‏ وغيره‏.‏ هي عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك‏.‏ أو أقول لك، وجوز كونها اسم فعل خبري كهيهات، واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك، وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أيضاً لأن اسم الفعل لا يتعلق به الجار، والتاء مطلقاً من بنية الكلمة، وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها أنها إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون اسم فعل بل تكون فعلاً مسنداً إلى ضمير المتكلم بل لأنه لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيأة كما إذا قيل لك‏:‏ قربني منك فقلت‏:‏ هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأهل مكة ‏{‏هَيْتَ‏}‏ بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء تشبيهاً له بحيث‏.‏

وقرأ أبو الأسود‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وعيسى البصرة؛ وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏هَيْتَ‏}‏ بفتح الهاء وسكون الياء وكسر التاء تشبيهاً له بجير، والكلام فيها على هاتين القراءتين كالكلام فيها على القراءة السابقة‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ والأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏هَيْتَ‏}‏ بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وتاء مفتوحة، وحكى الحلواني عن هشام أنه قرأ كذلك إلا أنه همز، وتعقب ذلك الداني تبعاً لأبي علي الفارسي في الحجة، وقد تبعه أيضاً جماعة بأن فتح التاء فيما ذكر وهم من الراوي لأن الفعل حينئذٍ من التهيؤ، ويوسف عليه السلام لم يتهيأ لها بدليل ‏{‏وَرَاوَدَتْهُ‏}‏ الخ فلا بدّ من ضم التاء، ورد ذلك صاحب النشر بأن المعنى على ذلك تهيأ لي أمرك لأنها لم يتيسر لها الخلوة به قبل‏.‏ أو حسنت هيئتك، و‏{‏لَكَ‏}‏ على المعنيين للبيان، والرواية عن هشام صحيحة جاءت من عدة طرق، وروي عنه أيضاً أنه قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، وهي رواية أيضاً عن ابن عباس‏.‏ وابن عامر‏.‏ وأبي عمرو أيضاً، وقرأ كذلك أبو رجاء‏.‏ وأبو وائل‏.‏ وعكرمة‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وطلحة وآخرون‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهلا الهمزة، وذكر النحاس أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وكسر التاء، وقرىء أيضاً هيا بكسر الهاء وفتحها وتشديد الياء، وهي على ما قال ابن هشام‏:‏ لغة في ‏{‏هَيْتَ‏}‏، وقال بعضهم‏:‏ إن القراءات كلها لغات وهي فيها اسم فعل بمعنى هلم، وليست التاء ضميراً؛ وقال آخر‏:‏ إنها لغات والكلمة عليها اسم فعل إلا على قراءة ضم التاء مع الهمز وتركه فإن الكلمة عليها تحتمل أن تكون فعلاً رافعاً لضمير المتكلم من هاء الرجل يهىء كجاء يجىء إذا حسنت هيئته‏.‏ أو بمعنى تهيأت، يقال‏:‏ هئت وتهيأت بمعنى، وإذا كانت فعلاً تعلقت اللام بها، ونقل عن ابن عباس أيضاً أنه قرأ هييت مثل حببت وهي في ذلك فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء كأن أحداً هيأها له عليه السلام ‏{‏قَالَ مَعَاذَ الله‏}‏ نصب على المصدر يقال‏:‏ عذت عوذاً‏.‏

وعياذاً‏.‏ وعياذة‏.‏ ومعاذاً أي أعوذ بالله عز وجل معاذاً مما تريدين مني، وهذا اجتناب منه عليه السلام على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله جل وعلا للخلاص منه، وما ذلك إلا لأنه قد علم بما أراه الله تعالى ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ‏}‏ تعليل ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي التي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها، والضمير للشأن، وفي تصدير الجملة به من الإيذان بفخامة مضمونها ما فيه مع زيادة تقريره في الذهن أي إن الشأن الخطير هذا أي هو ربي أي سيدي العزيز أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي على أكمل وجه فكيف يمكن أن أسىء إليه بالخيانة في حرمه‏؟‏ا وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد‏.‏ والسدي‏.‏ وابن أبي إسحاق، وتعقب بأن فيه إطلاق الرب على غيره تعالى فإن أريد به الرب بمعنى الخالق فهو باطل لأنه لا يمكن أن يطلق نبي كريم على مخلوق ذلك، وإذا أريد به السيد فهو عليه السلام في الحقيقة مملوك له، ومن هنا وإن كان فيما ذكر نظر ظاهر اختار في «البحر» أن الضمير لله تعالى، و‏{‏رَبّى‏}‏ خبر إن، و‏{‏أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ‏}‏ خبر ثان، أو هو الخبر، والأول بدل من الضمير أي إنه تعالى خالقي أحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي علي فكيف أعصيه باتركاب تلك الفاحشة الكبيرة‏؟‏ا وفيه تحذير لها عن عقاب الله تعالى، وجوز على تقدير أن يكون الرب بمعنى الخالق كون الضمير للشأن أيضاً، وأياً مّا كان ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ تعليل غب تعليل للامتناع المذكور، والفلاح الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان‏:‏ دنيوي‏.‏ وأخروي، فالأول‏:‏ الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء‏.‏ والغنى‏.‏ والعز، والثاني‏:‏ أربعة أشياء‏:‏ بقاء بلا فناء‏.‏ وغنى بلا فقر‏.‏ وعز بلا ذل‏.‏ وعلم بلا جهل، ولذلك قيل‏:‏ لا عيش إلا عيش الآخرة، ومعنى أفلح دخل في الفلاح كأصبح وأخواته، ولعل المراد به هنا الفلاح الأخروي، وبالظالمين كل من ظلم كائناً من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولاً أولياً، وقيل‏:‏ الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله، وقيل‏:‏ الخائنون لأنهم ظالمون لأنفسهم أيضاً ولمن خانوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ‏}‏ أي بمخالطته إذالهم سواء استعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقاً أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت كما هو المراد ههنا‏.‏ لا يتعلق بالأعيان‏.‏

والمعنى أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزماً جازماً لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت مما قص الله تعالى، ولعلها تصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما اضطره عليه السلام إلى الهرب نحو الباب، والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر ‏{‏وَهَمَّ بِهَا‏}‏ أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصداً اختيارياً لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم اتصافه عليه السلام به، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به كما قيل، وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد‏:‏ حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل‏:‏ ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني‏.‏

‏{‏لَّوْلاَ أَن لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ‏}‏ أي حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين، وقيل‏:‏ المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق وتذكر الأحوال الرادعة عن الإقدام على المنكر، وقيل‏:‏ رؤية ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏ مكتوباً في السقف، وجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ محذوف يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدته البرهان لجرى على موجب ميله الجبلي لكنه حيث كان مشاهداً له استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، هذا ما ذهب إليه بعض المحققين في معنى الآية وهو قول بإثبات هم له عليه السلام إلا أنه هم غير مذموم‏.‏

وفي «البحر» أنه لم يقع منه عليه السلام هم بها ألبتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول‏:‏ قارفت الذنب لولا أن عصمك الله تعالى ولا نقول‏:‏ إن جواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى الجواز الكوفيون‏.‏

ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري‏.‏ وأبو العباس المبرد بل نقول‏:‏ إن جواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب‏:‏ أنت ظالم إن فعلت كذا فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قولهم‏:‏ أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك ههنا التقدير ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ لهم بها فكان يوجد الهمّ على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، والمراد بالبرهان ما عنده عليه السلام من العلم الدال على تحريم ما همت به وأنهلا يمكن الهم فضلاً عن الوقوع فيه، ولا التفات إلى قول الزجاج‏:‏ ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيداً فكيف مع سقوط اللام لأنه توهم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ بِهَا‏}‏ هو جواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ ونحن لم نقل بذلك، وإنما قلنا إنه دليل الجواب على أنه على تقدير أن يكون نفس الجواب قد يقال‏:‏ إن اللام ليست بلازمة بل يجوز أن يأتي جواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ إذا كانت بصيغة الماضي باللام وبدونها فيقال‏:‏ لولا زيد لأكرمتك ولولا زيد أكرمتك، فمن ذهب إلى أن المذكور هو نفس الجواب لم يبعد، وكذا لا التفات أيضاً لقول ابن عطية‏:‏ إن قول من قال إن الكلام قد تم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ‏}‏ وأن جواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهَمَّ بِهَا‏}‏ وأن المعنى ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ لهمّ بها فلم يهم يوسف عليه السلام يرده لسان العرب، وأقوال السلف لما في قوله‏:‏ يرده لسان العرب من البحث‏.‏

وقد استدل من ذهب إلى الجواز بوجوده في لسان العرب فقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 10‏]‏ فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن كَادَتْ‏}‏ الخ إما أن يكون هو الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يكون دليل الجواب على ما قررناه، وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة على أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفاً لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناءاً على ذلك لهمّ بها وكلام العرب لا يدل إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه، هذا وممن ذهب إلى تحقق الهمّ القبيح منه عليه السلام الواحدي فإنه قال في كتاب «البسيط»‏:‏ قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم الآخذون للتأويل عمن شاهد التنزيل‏:‏ هم يوسف عليه السلام أيضاً بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زال كل شهوة عنه‏.‏

قال أبو جعفر الباقر‏:‏ رضي الله تعالى عنه بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ «طمعت فيه وطمع فيها» وكان طمعه فيها أن هم أن يحل التكة‏.‏

وعن ابن عباس أنه حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه أيضاً أنها استلقت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه، ورووا في البرهان روايات شتى‏:‏ منها ما أخرجه أبو نعيم في «الحلية» عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال عليه السلام‏:‏ أي شيء تصنعين‏؟‏ فقالت‏:‏ أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوأة فقال‏:‏ تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت‏؟‏ا ثم قال‏:‏ لا تناليها مني أبداً وهو البرهان الذي رأى، ومنها ما أخرجه ابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس أنه عليه السلام مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده على صدره، ومنها ما أخرجه عن قتادة أنه قال‏:‏ ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضاً على إصبعيه وهو يقول‏:‏ يا يوسف أتهم بعمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء، ومنها ما أخرجه عن القاسم بن أبي بزة قال‏:‏ نودي يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش فلم يعرض للنداء وقعد فرفع رأسه فرأى وجه يعقوب عاضاً على إصبعه فقام مرعوباً استحياءاً من أبيه إلى غير ذلك، وتعقب الإمام الرازي ما ذكر بأن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف وحاشاه من أقبح المعاصي وأنكرها، ومثلها لو نسب إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسناده إلى هذا الصديق الكريم‏؟‏ وأيضاً إن الله سبحانه شهد بكون ماهية السوء وماهية الفحشاء مصر وفتين عنه، ومع هذه الشهادة كيف يقبل القول بنسبة أعظم السوء والفحشاء إليه عليه السلام، وأيضاً إن هذا الهم القبيح لو كان واقعاً منه عليه السلام كما زعموا وكانت الآية متضمنة له لكان تعقيب ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء‏}‏ خارجاً عن الحكمة لأنا لو سلمنا أنه لا يدل على نفي المعصية فلا أقل من أن يدل على المدح العظيم، ومن المعلوم أنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح واوثنية، وأيضاً إن الأكابر كالأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوه بإظهار الندامة والتوبة والتخضع والتنصل فلو كان يوسف عليه السلام أقدم على هذه الفاحشة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بذلك، ولو كان قد أتبعها لحكى وحيث لم يكن علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب أصلاً، وأيضاً جميع من له تعلق بهذه الواقعة قد أفصح ببراءة يوسف عليه السلام عن المعصية كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن نظر في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين‏}‏ رآه أفصح شاهد على براءته عليه السلام، ومن ضم إليه قول إبليس‏:‏

‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏ وجد إبليس مقراً بأنه لم يغوه ولم يضله عن سبيل الهدى كيف وهو عليه السلام من عباد الله تعالى المخلصين بشهادة الله تعالى، وقد استثناهم من عموم ‏{‏لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

وعند هذا يقال للجهلة الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام تلك الفعلة الشنيعة‏:‏ إن كانوا من أتباع الله سبحانه فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته عليه السلام، وإن كانوا من أتباع إبليس فليقبلوا شهادته، ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر من تلامذته إلى أن تخرجنا فزدنا عليه في السفاهة كما قال الحريري‏:‏

وكنت امرءاً من جند إبليس فانتهى *** بي الحال حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنت أحسن بعده *** طرائق فسق ليس يحسنها بعدي

ومن أمعن النظر في الحجج وأنصف جزم أنه لم يبق في يد الواحدي ومن وافقه إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ولم يجد معهم شبهة في دعواهم المخالفة لما شهد له الآيات البينات سوى روايات واهيات‏.‏

وقد ذكر الطيبي طيب الله تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان‏:‏ هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز‏.‏ وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب أن نذهب إليه ونتخذه مذهباً، وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير إليه على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئاً مرفوعاً في كتبهم، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب اه، نعم قد صحح الحاكم بعضاً من الروايات التي استند إليها من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل نبذة منها إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها، ثم إن الإمام عليه الرحمة ذكر في تفسير الآية الكريمة بعد أن منع دلالتها على الهم ما حاصله‏:‏ إنا سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول‏:‏ لا بد من ءضمار فعل مخصوص يجعل متعلق الهم إذ الذوات لا تصلح له ولا يتعين ما زعموه من إيقاع الفاحشة بها بل نضمره شيئاً آخر يغاير ما أضمروه، فنقول‏:‏ المراد هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأنه الذي يستدعيه حاله عليه السلام، وقد جاء هممت بفلان أي قصدته ودفعته ويضمر في الأول المخالطة والتمتع ونحو ذلك لأنه اللائق بحالها، فإن قالوا‏:‏ لا يبقى حينئذٍ لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ فائدة‏؟‏ قلنا‏:‏ بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو هم بدفعها لفعلت معه ما يوجب هلاكه فكان في الامتناع عن ذلك صون النفس عن الهلاك، الثاني‏:‏ أنه لو اشتغل بدفعها فلربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام؛ وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو كان متمزقاً من قدام لكان هو الجاني‏.‏

ولو كان متمزقاً من خلف لكانت هي الجانية فأعلمه هذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها وفرعنها حتى صارت الشهادة حجة له على براءته عن المعصية، وإلى تقدير الدفع ذهب بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ففي «الجواهر والدرر» للشعراني‏:‏ سألت شيخنا عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا‏}‏ ما هذا الهم الذي أبهم فقد تكلم الناس فيه بما لا يليق برتب الأنبياء عليهم السلام‏؟‏ فقال‏:‏ لا أعلم، قلت‏:‏ قد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن مطلق اللسان يدل على أحدية المعنى، ولكن ذلك أكثري لا كلي فالحق أنها همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه، وهم هو بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه فالاشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف، ولهذا قالت‏:‏ ‏{‏أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏ وما جاء في السورة أصلاً أنه راودها عن نفسها اه، وجوز الإمام أيضاً تفسيراً لهم بالشهوة، وذكر أنه مستعمل في اللغة الشائعة فإنه يقول القائل فيما لا يشتهيه‏:‏ لا يهمني هذا، وفيما يشتهيه‏:‏ هذا أهم الأشياء إليّ، وهو ما أشرنا إليه أولاً إلا أنه عليه الرحمة حمل الهم في الموضعين على ذلك فقال بعد‏:‏ فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها ولولا أن رأى برهان ربه لفعل وهو مما لا داعي إليه إذ لا محذور في نسبة الهم المذموم إليها، والظاهر أن الهم بهذا المعنى مجاز كما نص عليه السيد المرتضى في درره لا حقيقة كما يوهمه ظاهر كلام الإمام، وقد ذهب إلى هذا التأويل أبو علي الجبائي‏.‏ وغيره، وروي ذلك عن الحسن، وبالجملة لا ينبغي التعويل على ما شاع في الأخبار والعدول عما ذهب إليه المحققون الأخيار، وإياك والهم بنسبة تلك الشنيعة إلى ذلك الجناب بعد أن كشف الله سبحانه عن بصر بصيرتك فرأيت برهان ربك بلا حجاب ‏{‏كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء‏}‏ قيل‏:‏ خيانة السيد ‏{‏والفحشاء‏}‏ الزنا لأنه مفرط القبح، وقيل‏:‏ ‏{‏السوء‏}‏ مقدمات الفحشاء من القبلة والنظر بشهوة‏.‏

وقيل‏:‏ هو الأمر السيء مطلقاً فيدخل فيه الخيانة المذكورة وغيرها، والكاف على ما قيل‏:‏ في محل نصب، والإشارة إلى التثبيت اللازم للإراءة المدلول عليها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ‏{‏لِنَصْرِفَ‏}‏ الخ، وقال ابن عطية‏:‏ إن الكاف متعلقة بمضمر تقديره جرت أفعالنا وأقدارنا ‏{‏كذلك لِنَصْرِفَ‏}‏، وقدر أبو البقاء نراعيه كذلك، والحوفي أريناه البراهين كذلك، وجوز الجميع كونه في موضع رفع فقيل‏:‏ أي الأمر أو عصمته مثل ذلك لكن قال الحوفي‏:‏ إن النصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها، واختار في «البحر» كون الإشارة إلى الرؤية المفهومة من رأى أو الرأي المفهوم، وقد جاء مصدر الرأي كالرؤية كما في قوله‏:‏

ورأى عيني الفتى أباكا *** يعطي الجزيل فعليك ذاكا

والكاف في موضع نصب بما دل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى‏}‏ الخ، وهو أيضاً متعلق ‏{‏لِنَصْرِفَ‏}‏ أي مثل الرؤية أو الرأي يرى براهيننا ‏(‏لنصرف‏)‏‏}‏ الخ، وقيل غير ذلك، ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل‏:‏ إن الجار والمجرور متعلق بهم، وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره ولقد همت به وهم بها كذلك لولا أن رأى برهان ربه لنصرف عنه الخ، ولا يخفى ما في التعبير بما في النظم الجليل دون لنصرفه عن السوء والفحشاء من الدلالة على رد من نسب إليه ما نسب والعياذ بالله تعالى‏.‏

وقرأ الأعمش ليصرف بياء الغيبة وإسناد الصرف إلى ضمير الرب سبحانه ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين‏}‏ تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها، والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه، ويحتمل على ما قيل‏:‏ أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال فيهم جل وعلا‏:‏ ‏{‏إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وابن عامر المخلصين إذا كان فيه أل حيث وقع بكسر اللام وهم الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ولا يخفى ما في التعبير بالجملة الاسمية من الدلالة على انتظامه عليه السلام في سلك أولئك العباد الذين هم هم من أول الأمر لا أنه حدث له ذلك بعد أن لم يكن، وفي هذا عند دوي الألباب ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل الله تعالى بها من كتاب‏.‏